فصل: قال مجد الدين الفيروزابادي:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



قوله: {تحرّوْاْ رشدا} أي: قصدوا ذلك، وطلبوه باجتهادٍ، ومنه: التحرِّي في الشيءِ. قال الراغب: حرى الشيء يحْريه أي: قصد حراه أي جانبه، وتحرّاه كذلك، وحرى الشيءُ يحْرِي: نقص، كأنه لزِم الحرى ولم يمْتدّ قال:
.................... ** والمرْءُ بعد تمامِه يحْرِي

ويقال: رماه الله بأفعى حارِيةٍ أي: ناقصةٍ شديدةٍ. انتهى، وكأنّ أصله مِنْ قولهم: هو حرٍ بكذا أي: حقيقٌ به قمِنٌ. و{رشدا} مفعولٌ به. والعامّةُ {رشدا} بفتحتين. والأعرج بضمةٍ وسكونٍ.
{وألّوِ اسْتقامُوا على الطّرِيقةِ لأسْقيْناهُمْ ماء غدقا (16)}
قوله: {وألّوِ استقاموا}: (أن) هي المخففةُ. وقد تقدّم أنه يُكتفى ب {لو} فاصلة بين (أن) الخفيفةِ وخبرِها، إذا كان جملة فعلية في سورة سبأ. وقال أبو البقاء هنا: و{لو} عوضٌ كالسين وسوف. وقيل: {لو} بمعنى (أن) و(أن) بمعنى اللامِ، وليستْ بلازمةٍ كقوله: {لئِن لّمْ تنتهِ} [الشعراء: 16] وقال في موضعٍ آخر: {وإِن لّمْ ينتهُواْ} [المائدة: 73] ذكره ابن فضّال في (البرهان). قلت: هذا شاذٌّ لا يُلتفت إليه البتة؛ لأنه خلافُ النّحْوِيين. وقرأ العامّةُ بكسر واو {لو} على الأصلِ. وابن وثاب والأعمشُ بضمِّها تشبيها بواوِ الضمير، وقد تقدم تحقيقُه في البقرة.
وقوله: {غدقا} الغدقُ بفتح الدال وكسرِها: لغتان في الماءِ الغزيرِ، ومنه الغيْداقُ: الماءُ الكثيرُ، وللرجلِ الكثيرِ العدْوِ، والكثيرِ النطقِ. ويقال: غدِقتْ عينُه تغْدقُ أي: هطل دمْعُها غدقا. وقرأ العامّةُ {غدقا} بفتحتيْن. وعاصم فيما روى عنه الأعشى بفتحِ الغينِ وكسْرِ الدالِ، وتقدّم أنهما لغتان.
{لِنفْتِنهُمْ فِيهِ ومنْ يُعْرِضْ عنْ ذِكْرِ ربِّهِ يسْلُكْهُ عذابا صعدا (17)}
قوله: {يسْلُكْهُ}: الكوفيون بياءِ الغيْبة، وهي واضحةٌ، لإِعادةِ الضميرِ على الربِّ تعالى. وباقي السبعةِ بنونِ العظمة على الالتفات، هذا كما تقدّم في قوله: {سبحان الذي أسرى} [الإِسراء: 1] ثم قال: {باركْنا حوْلهُ لِنُرِيهُ مِنْ آياتِنآ}. وقرأ ابن جندب {نُسْلِكْه} بنونٍ مضمومة مِنْ أسْلكه. وبعضُهم بالياء مِنْ تحتُ مضمومة، وهما لغتان. يُقال: سلكه وأسلكه. وأُنْشِد:
حتى إذا أسْلكوهم في قُتائِدةٍ

وسلك وأسْلك يجوزُ فيهما أنْ يكونا ضُمِّنا معنى الإِدخالِ فكذلك يتعدّيان لاثنين. ويجُوز أنْ يقال: يتعدّيان إلى أحدِ المفعوليْن بإسقاطِ الخافضِ، كقوله: {واختار موسى قوْمهُ} [الأعراف: 155]، فالمعنى: يُدْخِلْه عذابا، أو يسْلُكْه في عذاب، هذا إذا قلنا: إنّ {صعدا} مصدرٌ. قال الزمخشري: يقال: صعِد صعدا وصُعودا، فوصف به العذاب؛ لأنه يتصعّدُ المُعذّب أي يعْلُوه ويغْلِبُه، فلا يُطيقه. ومنه قول عمر رضي الله عنه: «ما تصعّدني شيءٌ ما تصعّدتْني خطبةُ النكاحِ» يريد: ما شقّ عليّ ولا غلبني.
وأمّا إذا جعلْناه اسما لصخْرةٍ في جهنم، كما قاله ابنُ عباسٍ وغيرُه، فيجوزُ فيه وجهان، أحدهما: أنْ يكون {صعدا} مفعولا به أي: يسْلُكْه في هذا الموضع، ويكون {عذابا} مفعولا مِنْ أجْلِه. والثاني: أنْ يكون {عذابا} مفعولا ثانيا، كما تقدّم، و{صعدا} بدلا مِنْ عذاب، ولكنْ على حذْفِ مضافٍ أي: عذاب صعدٍ.
و{صعدا} بفتحتيْن هو قراءة العامّة. وقرأ ابن عباس والحسنُ بضمِّ الصاد وفتح العين، وهو صفةٌ تقتضي المبالغة ك حُطمٍ ولُبدٍ، وقرئ بضمّتين وهو وصفٌ أيضا ك جُنُب وشُلُل.
{وأنّ الْمساجِد لِلّهِ فلا تدْعُوا مع اللّهِ أحدا (18)}
قوله: {وأنّ المساجد}: قد تقدّم أنّ السبعة أجمعتْ على الفتح، وأنّ فيه وجهيْنِ: حذْف الجارِّ ويتعلّقُ بقوله: {فلا تدْعُوا} وهو رأيُ الخليلِ، وجعله كقوله: {لإِيلافِ قُريْشٍ} [قريش: 1] فإنّه متعلِّقٌ بقوله: {فلْيعْبُدُواْ} [قريش: 2] وكقوله: {وإِنّ هذه أُمّتُكُمْ} [المؤمنون: 52] أي: ولأنّ. والثاني: أنّه عطف على {أنّه استمع} فيكون مُوْحى. وقرأ ابن هرمز. وطلحة {وإنّ المساجد} بالكسرِ، وهو مُحْتمِلٌ للاستئنافِ وللتعليلِ، فيكونُ في المعنى كتقديرِ الخليلِ. والمساجد قيل: هي جمْعُ (مسْجِد) بالكسر وهو موْضِعُ السجُّودِ، وتقدّم أنّ قياسه الفتحُ. وقيل: هو جمع مسْجد بالفتح مُرادا به الآرابُ الورادةُ في الحديث: «الجبهةُ والأنفُ والركبتانِ واليدانِ والقدمان». وقيل: بل جمعُ مسْجد، وهو مصدرٌ بمعنى السُّجود، ويكون الجمعُ لاختلافِ الأنواعِ.
{وأنّهُ لمّا قام عبْدُ اللّهِ يدْعُوهُ كادُوا يكُونُون عليْهِ لِبدا (19)}
قوله: {يدْعُوهُ}: في موضع الحالِ أي: داعيا، أي: مُوحِّدا له.
قوله: {لِبدا} قرأ هشام بضمِّ اللامِ، والباقون بكسرِها. فالأولى. جمعُ لُبْدة بضمِّ اللامِ نحو: غُرْفة وغُرف. وقيل: بل هو اسمٌ مفردٌ صفةٌ من الصفاتِ نحو: (حُطم)، وعليه قوله تعالى: {مالا لُّبدا} [البلد: 6]. وأمّا الثانيةُ: فجمعُ (لِبْدة) بالكسر نحو: قِرْبة وقِرب. واللِّبْدة واللُّبْدة. الشيءُ المتلبِّدُ أي: المتراكبُ بعضُه على بعضٍ، ومنه لِبْدة الأسد كقوله:
........................ ** له لِبْدةٌ أظفارُه لم تُقلّم

ومنه (اللِّبْدُ) لتلبُّدِ بعضِه فوق بعض، ولُبدٌ: اسمُ نسْرِ لُقمان ابنِ عادٍ، عاش مِئتي سنةٍ حتى قالوا: (طال الأمدُ على لُبدٍ) والمعنى: كادتِ الجِنُّ يكونون عليه جماعاتٍ متراكمة مُزْدحمِيْن عليه كاللّبِدِ.
وقرأ الحسنُ والجحدريُّ {لُبُدا} بضمتين، ورواها جماعةٌ عن أبي عمروٍ، وهي تحتملُ وجهيْنِ، أحدُهما: أنْ يكون جمع لبْد نحو: (رُهُن) جمع (رهْن). والثاني: أنّه جمعُ (لبُود) نحو: صبورُ وصُبُر، وهو بناءُ مبالغةٍ أيضا. وقرأ ابن مُحيْصن بضمةٍ وسكونٍ، فيجوزُ أنْ تكون هذه مخففة من القراءة التي قبلها، ويجوزُ أن تكون وصْفا برأسِه. وقرأ الحسن والجحدريُّ أيضا {لُبّدا} بضم اللام وتشديد الباء، وهو جمعُ (لابِد) كساجِد وسُجّد، وراكع ورُكّع. وقرأ أبو رجاء بكسرِ اللامِ وتشديدِ الباءِ وهي غريبةٌ جدا.
{قُلْ إِنّما أدْعُو ربِّي ولا أُشْرِكُ بِهِ أحدا (20)}
قوله: {قُلْ إِنّمآ أدْعُو}: قرأ عاصمٌ وحمزةُ {قُلْ} بلفظِ الأمرِ التفاتا أي: قُلْ يا محمدُ. والباقون {قال} إخبارا عن عبدِ الله وهو محمدٌ صلى الله عليه وسلم. قال الجحدري: وهي في المصحفِ كذلك، وقد تقدّم لذلك نظائرُ في {قُلْ سبحان ربِّي} [الإِسراء: 93] آخر الإِسراء، وكذا في أولِ الأنبياءِ [الآية: 4]، وآخر (المؤمنون).
{قُلْ إِنِّي لا أمْلِكُ لكُمْ ضرّا ولا رشدا (21)}
قوله: {ضرّا ولا رشدا}: قرأ الأعرجُ {رُشُدا} بضمتْينِ. وجعل الضّرّ عبارة عن الغيِّ؛ لأنّ الضرّ سببٌ عن الغيِّ وثمرتُه، فأقام المسبّب مُقام سببِه. والأصلُ: لا أمْلِكُ غيّا ولا رشدا، فذكر الأهمّ. وقيل: بل في الكلامِ حذْفان، والأصل: لا أمْلِكُ لكم ضرّا ولا نفْعا ولا غيّا ولا رشدا، فحذف مِنْ كلِّ واحدٍ ما يدُلُّ مقابِلُه عليه.
{قُلْ إِنِّي لنْ يُجِيرنِي مِن اللّهِ أحدٌ ولنْ أجِد مِنْ دُونِهِ مُلْتحدا (22)}
قوله: {مُلْتحدا}: مفعولُ {أجِدُ} لأنّها بمعنى: أُصيبُ وألْقى. والمُلْتحدُ هنا: المسْلكُ والمذْهبُ قال:
يا لهْف نفسي ولهْفي غيرُ مُجْديةٍ ** عنِّي وما مِنْ قضاءِ الله مُلْتحدُ

أي: مهْربٌ ومذْهبٌ.
{إِلّا بلاغا مِن اللّهِ ورِسالاتِهِ ومنْ يعْصِ اللّه ورسُولهُ فإِنّ لهُ نار جهنّم خالِدِين فِيها أبدا (23)}
قوله: {إِلاّ بلاغا}: فيه أوجهٌ، أحدُها: أنه استثناءٌ منقطعٌ. أي: لكنْ إنْ بلّغْتُ عن اللّهِ رحِمني؛ لأنّ البلاغ من الله لا يكونُ داخلا تحت قوله: {ولنْ أجِد مِن دُونِهِ مُلْتحدا}، لأنه لا يكونُ مِنْ دونِ اللّهِ، بل يكونُ من اللّهِ وبإعانتِه وتوفيقِه. الثاني: أنه متصلٌ. وتأويلُه: أنّ الإِجارة مستعارةٌ للبلاغِ، إذ هو سببُها، وسببُ رحمتِه تعالى، والمعنى: لن أجِد سببا أميلُ إليه وأعتصمُ به، إلاّ أنْ أُبلِّغ وأُطيع، فيُجيرني. وإذا كان متصلا جاز نصبُه من وجهين، أحدهما: وهو الأرجح أنْ يكون بدلا مِنْ {مُلْتحدا}؛ لأنّ الكلام غيرُ موجبٍ. والثاني: أنه منصوبٌ على الاستثناءِ، وإلى البدليةِ ذهب أبو إسحاق. الثالث: أنه مستثنى مِنْ قوله: {لا أمْلِكُ لكُمْ ضرّا} قال قتادة: أي لا أمْلِكُ لكم إلاّ بلاغا إليكم.
وقرّره الزمخشريُّ فقال: أي: لا أمْلِكُ إلاّ بلاغا من اللّهِ، و{قُلْ إِنِّي لن يُجِيرنِي} جملة معترضةٌ اعترض بها لتأكيدِ نفْيِ الاستطاعة. قال الشيخ: وفيه بُعْدٌ لطولِ الفصْلِ بينهما. قلت: وأين الطولُ وقد وقع الفصْلُ بأكثر مِنْ هذا؟ وعلى هذا فالاستثناءُ منقطعٌ. الرابع: أنّ الكلام ليس استثناء بل شرطا. والأصل: إنْ لا فأدغم ف (أن) شرطيةٌ، وفعلُها محذوفٌ لدلالةِ مصدرِه والكلامِ الأولِ عليه، و(لا) نافيةٌ والتقدير: إن لا أُبلِّغْ بلاغا من اللّهِ فلن يُجيرني منه أحدٌ. وجعلوا هذا كقول الشاعر:
فطلِّقْها فلسْت لها بكُفْءٍ ** وإلاّ يعْلُ مفْرِقك الحُسامُ

أي: وإنْ لا تُطلِّقْها يعْلُ، حذف الشرط وأبقى الجواب. وفي هذا الوجهِ ضعْفٌ من وجهيْن، أحدهما: أنّ حذْف الشرطِ دون أداتِه قليلٌ جدا. والثاني: أنّه حُذِف الجزآن معا أعني الشرط والجزاء، فيكونُ كقوله:
قالتْ بناتُ العمِّ يا سلْمى وإنْ ** كان فقيرا مُعْدما قالت: وإِنْ

أي: قالتْ: وإنْ كان فقيرا فقد رضِيْتُه. وقد يُقال: إنّ الجواب إمّا مذكورٌ عند من يرى جواز تقديمِه، وإمّا في قوةِ المنطوق به لدلالةِ ما قبله عليه.
قوله: {مِّن الله} فيه وجهان:
أحدهما: أنّ (من) بمعنى عنْ؛ لأنّ بلِّغ يتعدّى بها، ومنه قوله عليه السلام: «ألا بلِّغوا عني».
والثاني: أنّه متعلِّقٌ بمحذوفٍ على أنه صفةٌ ل {بلاغ}. قال الزمخشري: (من) ليستْ صلة للتبليغ، إنما هي بمنزلةِ (من) في قوله: {براءةٌ مِّن الله} [التوبة: 1] بمعنى: بلاغا كائنا من الله.
قوله: {ورِسالاتِهِ} فيه وجهان، أحدُهما: أنها منصوبةٌ نسقا على {بلاغا} كأنه قيل: لا أمْلِكُ لكم إلاّ التبليغ والرسالاتِ، ولم يقُلِ الزمخشريُّ غيره. والثاني: أنها مجرورةٌ نسقا على الجلالةِ أي: إلاّ بلاغا عن اللّهِ وعن رسالاتِه، كذا قدّره الشيخُ.
وجعله هو الظاهر. وتجوّز في جعْلِه (من) بمعنى عن، والتجوُّزُ في الحروفِ رأيٌ كوفيٌّ، ومع ذلك فغيرُ منقاسٍ عندهم.
قوله: {فإِنّ لهُ نار} العامّة على كسرِها، جعلوها جملة مستقلة بعد فاءِ الجزاءِ. وقرأ طلحةُ بفتْحِها، على أنّها مع ما في حيِّزِها في تأويلِ مصدرٍ واقعٍ خبرا لمبتدأ مضمرٍ تقديرُه: فجزاؤهُ أنّ له نار جهنم، أو فحُكْمُه: أنّ له نار جهنم. قال ابن خالويه: سمِعْتُ ابن مجاهدٍ يقول: لم يقرأ به أحدٌ، وهو لحنٌ؛ لأنه بعد فاءِ الشرط. قال: وسمعتُ ابن الأنباريِّ يقول: هو صوابٌ ومعناه، فجزاؤُه أنّ له نار جهنم. قلت: ابنُ مجاهدٍ وإنْ كان إماما في القراءات، إلاّ أنّه خفِي عليه وجهُها، وهو عجيبٌ جدا. كيف غفل عن قراءتيْ {فأنّهُ غفُورٌ رّحِيمٌ} في الأنعام [الآية: 54]، لا جرم أنّ ابن الأنباريِّ اسْتصْوب القراءة لِطُولِ باعِه في العربية.
قوله: {خالِدِين} حالٌ من الهاء في {له}، والعاملُ الاستقرار الذي تعلّق به هذا الجارُّ، وحمل على معنى (من) فلذلك جمع.
{حتّى إِذا رأوْا ما يُوعدُون فسيعْلمُون منْ أضْعفُ ناصِرا وأقلُّ عددا (24)}
قوله: {حتى إِذا}: قال الزمخشري: فإنْ قُلْت: بِم تعلّق {حتى} وجُعِل ما بعده غاية له؟ قلت: بقوله: {يكُونُون عليْهِ لِبدا} [الجن: 19] على أنهم يتظاهرون عليه بالعداوةِ، ويسْتضْعِفون أنصاره، ويسْتقِلُّون عدده، حتى إذا رأوْا ما يُوْعدون مِنْ يوم بدرٍ، وإظهارِ اللّهِ عليهم، أو مِنْ يومِ القيامةِ فسيعْلمون حينئذٍ منْ أضْعفُ ناصِرا. قال: ويجوزُ أنْ يتعلّق بمحذوفٍ دلّتْ عليه الحالُ: مِن استضعافِ الكفارِ واستقلالِهم فعددِه، كأنه قال: لا يزالون على ما هم عليه، حتى إذا رأوْا ما يُوْعدون قال المشركون: متى هذا الموعدُ؟ إنكارا له: فقال: قُلْ إنه كائنٌ لا ريب فيه. قال الشيخ: قوله: بِم تعلّق؟ إن عنى تعلُّق حرفِ الجرِّ فليس بصحيح لأنّها حرفُ ابتداءٍ فما بعدها ليس في موضعِ جرٍ خلافا للزجّاجِ وابنِ دُرُسْتويْه فإنهما زعما أنها إذا كانتْ حرف ابتداءٍ فالجملة الابتدائيةُ بعدها في موضع جرِّ. وإنْ عنى بالتعلُّقِ اتصال ما بعدها بما قبلها وكون ما بعدها غاية لِما قبلها فهو صحيحٌ. وأمّا تقديرُه أنها تتعلّقُ بقوله: {يكُونُون عليْهِ لِبدا} فهو بعيدٌ جدا لطولِ الفصْلِ بينهما بالجملِ الكثيرةِ. وقدّر بعضُهم ذلك المحذوف المُغيّا، فقال: تقديرُه: دعْهم حتى إذا. وقال التبريزي: جاز أنْ تكون غاية لمحذوفٍ. ولم يُبيِّن ما هو؟ وقال الشيخ: والذي يظْهرُ أنها غايةٌ لِما تضمّنْتْه الجملة التي قبلها مِنْ الحُكْم بكينونةِ النارِ لهم. كأنّه قيل: إنّ العاصِي يُحْكمُ له بكيْنونةِ النارِ، والحُكْمُ بذلك هو وعيدٌ، حتى إذا رأوْا ما حكم بكينونتِه لهم فسيعْلمون.
قوله: {منْ أضْعفُ} يجوزُ في (من) أن تكون استفهامية فترتفع بالابتداء، و{أضعفُ} خبرُه. والجملة في موضعِ نصبٍ سادّة مسدّ المفعوليْن لأنها مُعلِّقةٌ للعلمِ قبلها، وأنْ تكون موصولة، و{أضْعفْ} خبرُ مبتدأ مضمرٍ. أي: هو أضْعفُ. والجملة صلةٌ وعائدٌ. وحسّن الحذْف طولُ الصلةِ بالتمييزِ. والموصولُ مفعولٌ للعِلْم بمعنى العِرْفان.
{قُلْ إِنْ أدْرِي أقرِيبٌ ما تُوعدُون أمْ يجْعلُ لهُ ربِّي أمدا (25)}
قوله: {أقرِيبٌ}: خبرٌ مقدّمٌ و{ما تُوعدون} مبتدأ. ويجوز أن يكون {قريبٌ} مبتدأ لاعتماده على الاستفهام. و{ما تُوعدون} فاعلٌ به أي: أقربُ الذي تُوْعدون، نحو: أقائمٌ أبواك. و(ما) يجوزُ أنْ تكون موصولة، فالعائدُ محذوفٌ، وأنْ تكون مصدرية فلا عائد و{أم}: الظاهرُ أنها متصلةٌ. وقال الزمخشري: فإنْ قلت ما معنى {أمْ يجْعلُ لهُ ربي أمدا} والأمدُ يكونُ قريبا وبعيدا؟ ألا ترى إلى قوله: {تودُّ لوْ أنّ بيْنها وبيْنهُ أمدا بعِيدا} [آل عمران: 30] قلت: كان النبيُّ صلى الله عليه وسلم يستقْرِبُ الموْعِد فكأنه قال: ما أدْري أهو حالٌ متوقّعٌ في كلِّ ساعةٍ أم مُؤجّلٌ ضُرِبتْ له غايةٌ.
{عالِمُ الْغيْبِ فلا يُظْهِرُ على غيْبِهِ أحدا (26)}
قوله: {عالِمُ الغيب}: العامّةُ على رفعِهِ: إمّا بدلا مِنْ {ربي}، وإمّا بيانا له، وإمّا خبرا لمبتدأ مضمرٍ أي: هو عالِمُ. وقرئ بالنصبِ على المدحِ. وقرأ السُّدِّي {علِم الغيب} فعلا ماضيا ناصبا للغيب.
قوله: {فلا يُظْهِرُ} العامّةُ على كونِه مِنْ أظْهر. و{أحدا} مفعولٌ به. وقرأ الحسن {يظْهرُ} بفتحِ الياءِ والهاءِ، مِنْ ظهر ثلاثيا. {أحدٌ} فاعلٌ به.
{إِلّا منِ ارْتضى مِنْ رسُولٍ فإِنّهُ يسْلُكُ مِنْ بيْنِ يديْهِ ومِنْ خلْفِهِ رصدا (27)}
قوله: {إِلاّ منِ ارتضى}: يجوزُ أنْ يكون منقطعا أي: لكن منْ ارتضاه فإنه يُظْهِرُه على ما يشاءُ مِنْ غيْبِه بالوحْيِ. وقوله: {مِنْ رسولٍ} بيانٌ للمُرْتضِيْن.
وقوله: {فإِنّهُ يسْلُكُ} بيانٌ لذلك. وقيل: هو متصلٌ. و{رصدا} قد تقدّم الكلامُ عليه. ويجوزُ أنْ تكون (من) شرطية أو موصولة متضمِّنة معنى الشرط. وقوله: {فإنّه} خبرُ المبتدأ على القوليْنِ. وهو من الاستثناءِ المنقطعِ أيضا، أي: لكن. والمعنى: لكنْ منْ ارتضاه من الرُّسُلِ فإنه يجْعلُ له ملائكة رصدا يحْفظونه.
{لِيعْلم أنْ قدْ أبْلغُوا رِسالاتِ ربِّهِمْ وأحاط بِما لديْهِمْ وأحْصى كُلّ شيْءٍ عددا (28)}
قوله: {لِّيعْلم}: متعلقٌ ب {يسْلُكُ}. والعامّةُ على بنائه للفاعلِ. وفيه خلافٌ أي: لِيعْلم محمدٌ صلى الله عليه وسلم. وقيل: لِيعْلم أي: ليظْهر عِلْمُه للناس. وقيل: ليعْلم إبليسُ. وقيل: ليعْلم المشركون. وقيل: لِيعْلم الملائكةُ، وهما ضعيفان لإِفرادِ الضميرِ. والضميرُ في {أبْلغُوا} عائدٌ على (من) مِنْ قوله: {منْ ارتضى} راعى لفظها أولا، فأفرد في قوله: {مِن بيْنِ يديْهِ ومِنْ خلْفِهِ}، ومعناها ثانيا فجمع في قوله: {أبْلغُوا} إلى آخرِه.
وقرأ ابنُ عباس وزيدُ علي {لِيُعْلم} مبنيا للمفعول. وقرأ ابن أبي عبلة والزُّهْري {لِيُعْلِم} بضمِّ الياءِ وكسرِ اللامِ أي: لِيُعْلِم اللّهُ ورسولُه بذلك. وقرأ أبو حيوة {رسالة} بالإِفرادِ، والمرادُ الجمعُ. وابن أبي عبلة {وأُحِيْط} {وأُحْصِي} مبنيين للمفعول، {كلُّ} رفعٌ بأُحْصِي.
قوله: {عددا} يجوزُ أنْ يكون تمييزا منقولا من المفعولِ به. والأصل: أحصى عدد كلِّ شيءٍ كقوله تعالى: {وفجّرْنا الأرض عُيُونا} [القمر: 12] أي: عيون الأرض، على خلافٍ سبق في ذلك. ويجوزُ أنْ يكون منصوبا على المصدرِ من المعنى؛ لأنّ {أحصى} بمعنى عدّ، فكأنه قيل: وعدّ كلّ الفعل، والفعلُ إلى المصدر. ومنع مكي كونه مصدرا للإِظهار فقال: {عددا} نصْبٌ على البيانِ، ولو كان مصدرا لأدغم. قلت: يعني: أنّ قياسه أنْ يكون على فعْل بسكونِ العين، لكنه غيرُ لازمٍ فجاء مصدرُه بفتح العين. ولمّا كان {لِيعْلم} مضمّنا معنى: قد علِم ذلك، جاز عطف {وأحاط} على ذلك المقدّرِ. اهـ.

.قال مجد الدين الفيروزابادي:

بصيرة في عد:
عددْتُ الشيء عدّا أى أحصيته.
وقوله تعالى: {فسْئلِ الْعآدِّين} أى الملائكة الذِّين تعدّ عليهم أنفاسهم وأعمارهم، فهم أعلم بما لبثوا.
وقوله تعالى: {إِنّما نعُدُّ لهُمْ عدّا} أى أنفاسهم.
والاسم العدد والعدِيد.
وقوله: {وأحْصى كُلّ شيْءٍ عددا} أى عدّ كلّ شيء عدّا، ويجوز أن يكون عددا بمعنى معدود، فيكون انتصابه على الحال كالحسب بمعنى المحسوب، والنفض بمعنى المنفوض.
قال امرأة رأت رجلا كانت عهِدته جلْدا شابّا: أين شبابك وجلدك؟ فقال: من طال أمدُه، وكثر ولدُه، ورقّ عددُه، ذهب جلده.
قوله: عدده أى سِنُوه التي بِعدّها ذهب أكثر سِنّه وقلّ ما بقى فكان عنده رقيقا.
وقوله: {فضربْنا على آذانِهِمْ فِي الْكهْفِ سِنِين عددا}، ذِكره العدد تنبيه على كثرتها.
والأيام المعدودات: أيّام التشريق، وقيل يوم النّحر ويومان بعده، وعِدّة المرأة: أيّام أقرأئها.
وسئل أبو واثلة إِياس بن معاوية: متى تكون القيامة؟ فقال: إِذا تكاملت العِدّتان: عدّة أهل الجنّة وعدّة أهل النار.
أى إِذا تكاملت عند الله لرجوعهم إِليه قامت القيامة، قال الله تعالى: {إِنّما نعُدُّ لهُمْ عدّا} فكأنّهم إِذا استوفوا المعدود لهم قامت القيامة عليهم.
وقوله تعالى: {جمع مالا وعدّدهُ} أى جعله عُدّة للدّهر.
وقال الأخفش: جعله ذا عدد.
قيل: يُتجوّز بالعدِّ على أوجه: يقال: شيء معدود ومحصور للقليل مقابّلة لما لا يُحصى كثرة، نحو المشار إِليه بقوله: {بِغيْرِ حِسابٍ} وعلى ذلك قوله: {لن تمسّنا النّارُ إِلاّ أيّاما مّعْدُودة}، أى قليلة لأنهم قالوا: نعذّب بعدد الأيّام التي عبدْنا فيها العجْل.
ويقال على الضدّ من ذلك: نحو جيش عديد أى كثير.
وإِنّهم لذوو عدد، أى هم بحيث يجب أن يُعدوّا كثرة.
ويقال في القليل: هم شيء غيرمعدود.
وقوله: {فِي الْكهْفِ سِنِين عددا} يحتمل الأمرين.
ومنه هذا غير معتدّ به.
وله، عُدّة أى شيء كثير من مال وسلاح وغيرهِما.
والعُدّة أيضا: الاستعداد، يقال: كونوا على عُدّة.
وأخذ للأمر عُدّته وعتاده بمعنى وماءٌ عِدٌّ.
والعِدّةُ: هي الشيءُ المعدود، وقوله تعالى: {فعِدّةٌ مِّنْ أيّامٍ أُخر} أى عدد ما قد فاته.
وقوله: {ولِتُكْمِلُواْ الْعِدّة} أى عدّة الشهر. اهـ.